بصمة قدري

الحب قلب الروح.

أدركت ذلك عندما أحببتها. لن أنسى أبداً لحظة لقائنا الأول منذ عشرين عاماً، تلك اللحظة التي تغير فيها قدري. دائماً أتخيل القدر وهو ينظر إليّ بعينيه الغامضتين ويكتب مستقبلي في دفتره، يكتب بضع كلمات ثم يكتب اسمي، ثم يكتب عدة جمل ويكرر اسمي؛ هكذا يملأ الصفحة تلو الأخرى، ويمر عمري لحظة تلو الأخرى، إلى أن آنت تلك اللحظة الاستثنائية، لحظة لقائنا، عندها شعرت أن القدر تأملني ومزق كل ما كتبه عني، ثم أعاد صياغة إنسانيتي من جديد على صفحة ناصعة النقاء خصيصاً لأجلها. ولأجلها أنا مستعد لفعل أي مستحيل؛ لذلك لم أتفاجأ عندما وصلتني رسالتها الأخيرة حاملة طلباً شبه مستحيل، لكنني احترت وأنا أفكر في طريقة تمكنني من تلبيته. أعدت قراءة رسالتها المكتوبة بخطها المنمنم الجميل لعلها توحي لي بفكرة.

"نجمي/سهيل

يصادف يوم الجمعة المقبل ذكرى مناسبة سعيدة نحتفل بها معاً كل عام. دائماً تقدم لي هدايا استثنائية غالية، لكنني هذا العام أريد هدية فريدة لا تقدر بثمن، هدية ترمز لأغلى ما تملك من الناحية المعنوية. لا يهم ما هي، المهم ما تعنيه لك. متحمسة جداً للاحتفال معك ولتلقي هديتك. سأكون بانتظارك.”

قارنت تاريخ الاحتفال بتاريخ اليوم، فقدرت أن لدي ستة أيام لجلب الهدية. طويت الرسالة. وأطرقت أفكر في هدية بالمواصفات المطلوبة. قمت بحصر ثروتي المعنوية، فوجدت أنها عبارة عن ذكريات. أعتقد أن الأشياء تستمد قيمتها المعنوية من ذكرياتنا معها، ذكرياتنا التي تكون قصصنا؛ لذلك قررت أن أكتب لها قصتي، بخط يدي وعلى دفتري الوحيد، الذي لم أستخدمه من قبل، بالرغم من أنني اشتريته قبل تسعة وعشرين عاماً، في يوم من أهم أيام حياتي. يومها راقني تصميمه العفوي، غلافه الجلدي الأبيض المزين برسومات طفولة بارزة، وجه أصفر مشرق بابتسامة، قوس قزح يمرح في الأفق، قلوب ملونة تنبض بالشغف، أقراص دواء يشفي من أي مرض، كلمات متطايرة، نجوم متراقصة، وعيون حالمة. لا أظن أن تصميم غلافه مثالي لقصتي، لكنه يعبر عن جانب منها، الجانب الجذاب واللطيف، الذي أحاول أن أظهره لها.

بعد ذلك بدأت أفكر في الأسلوب الذي سأكتبها به، فهي قصة مترامية الذكريات. تمتد أحداثها على مدى سنوات عمري الست والخمسين، أثناءها جبت كل المشاعر الإنسانية، انطلقت في صحاري الحرية، تسلقت جبال المجد، همت في سهول الأحلام، تهت في أودية الأفكار، استأنست في واحات الرغد، هويت من فوق هضاب اليأس، نقبت عن آبار الأمل، وغرقت ببحور الحب.

تجولت في ذكرياتي، ثم قررت أن أروي لها الجزء الذي لا تعرفه من قصتي، الذي حدث قبل أن ألتقي بها. اختصرته في أربع قصص تمثل أهم نقاط التحول في حياتي الخاصة. اقتضى ذلك إفشاء بعض أسرار أفراد عائلتي الكريمة، فلا يمكنني أن أفصل قصتي عن قصصهم. أعتقد أن لكل فرد منا دوراً جوهرياً في حياة الآخرين. وأن هناك صلة قرابة تربط أرواحنا بالإضافة إلى صلة الدم التي تربط أجسادنا. كلما تفكرت في روح أحدهم أشعر بالألفة، وكلما نظرت إلى وجه أحدهم أخال أنني أرى وجهي في مرآة محدبة أو مقعرة، فالملامح ذاتها أكبر أو أصغر قليلاً. أقدرانا متداخلة وأرواحنا متآلفة ووجوهنا متشابهة.

قبل أن أبدأ بكتابة قصتي، كان عليّ أن أختار العنوان، وقد احترت كثيراً وأنا أفكر في العنوان المناسب لها، قصتي هي بصمة قدري، من الصعب أن أصفها، في البداية فكرت أن أعنونها باسمي: سهيل سالم المبراق. دفعني ذلك للتساؤل عن معنى اسمي في قاموسها. مازلت أذكر رد فعلها عندما عرفتها بنفسي وقلت لها اسمي لأول مرة. ما أن سمعته حتى ابتسمت لي بلطف آسر، أما أنا فلم أسألها عن اسمها؛ لأنني كنت أعرفه قبل أن نلتقي. لا أعرف كم مرة لفظت فيها اسمي أو كم مرة كتبته، في كل مرة كنت أكرر الحروف ذاتها ولكن هل كنت دوماً الشخص ذاته؟

لا شك أنني تغيرت، تغيرت جذرياً. التغير سنة الحياة، حقيقة أرددها دائماً، ولا أتقبلها إلا نادراً. يخيفني التغير باحتمالاته اللامتناهية، لا أدري ماذا سيسلبني أو يمنحني، بالرغم من ذلك أتغير باستمرار. بإرادتي أو رغما عني، أتغير. أحياناً أسعى للتغير أو أتفاداه، أحياناً أخطط له أو أفاجأ به، ودائماً أردد سبحان من يغير ولا يتغير.

بعدما تفكرت في تفاصيل قصتي وجدت أن اسمي ليس العنوان المناسب لها؛ لأنني لم اختره، كما أنه لا يعبر عن رأيي في نفسي. بحثت عن عنوان يصف جوهر شخصيتي، فوجدت أنه يكمن في ملامح روحي. أظن أن لأرواحنا ملامح تميزها عن بعضها، لا يمكننا أن نبصر ملامح أرواحنا بأعيننا، لكنها تتجلى لبصيرتنا إذا تفكرنا في قصصنا. وقد أمعنت التفكر في قصتي، فأدركت أنني لست سوى روح جامحة؛ لذلكاخترت "جموح الروح" عنواناً لقصتي. واظبت على كتابتها منذ صباح اليوم الذي تلقيت فيه رسالتها. استغرقت ستة أيام لإتمامها. كتبت السطر الأخير قبل موعدي معها ببضع ساعات. راودتني رغبة بقراءتها قبل تسليمها لها. جلست في مكتبة أبي على أريكته الجلدية الوثيرة، أعددت لنفسي فنجان قهوة، بسملت، وبدأت بقراءتها

ملاحظة: نص “بصمة قدر” هو مقدمة رواية جموح الروح من إصدارات كــ يمكنكم اقتناءها من متجر درب

Previous
Previous

حوار مع الأديبة نسرين غندورة حول إصدار كتابها الجديد جموح الروح

Next
Next

لمحة عن رواية النهر الثالث